كامل المعمري | مركز المعلومات
بعد توقيع معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية عام 1979، أصبحت شبه جزيرة سيناء فعليًا منطقة منزوعة السلاح تعمل كمنطقة عازلة لصالح الكيان الإسرائيلي. فرضت المعاهدة وملحقاتها الأمنية قيودًا صارمة على حجم وانتشار القوات المصرية في سيناء التي قُسمت إلى ثلاث مناطق ذات مستويات تسليح متفاوتة. في المنطقة الأقرب إلى حدود فلسطين المحتلة (المنطقة “ج”) يُحظر أي وجود عسكري مصري الشرطة بأسلحة خفيفة مع وجود قوات دولية للمراقبة، مما أبقى هذه المنطقة العريضة حزامًا خاليًا من الجيش المصري.
ورغم أن هذه الترتيبات ضمنت أمنًا إضافيًا لكيان الاحتلال، فإنها أثّرت على سيادة مصر الكاملة على أراضيها؛ حيث اشتكت القاهرة مرارًا من أن المنطقة “ج” تحولت إلى ملاذ لجماعات مسلحة وعصابات خارج القانون مستغلة غياب الجيش وسط تضاريس سيناء الوعرة. وقد اضطر الجيش المصري لاحقًا إلى التنسيق مع الاحتلال لإدخال تعزيزات محدودة إلى سيناء عندما واجه تهديدات إرهابية هناك، ما يؤكد مدى انضباط السيادة المصرية في سيناء بقيود اتفاقية كامب ديفيد.
الأردن: شكّل الأردن حاجزًا جغرافيًا استراتيجيًا بين كيان الاحتلال وبقية الدول العربية الشرقية، خاصة بعد توقيع معاهدة وادي عربة عام 1994. فمنذ ذلك الحين، حرص الاحتلال الإسرائيلي على ألا تتحول الأراضي الأردنية إلى ممر أو قاعدة لأي قوة عسكرية عربية وعمليًا، باتت المملكة الأردنية بكاملها منطقة عازلة تفصل جيش الاحتلال عن أي جيوش عربية في الشرق. حتى أن أي محاولة لإدخال قوات عربية عبر الأردن قوبلت بتحذيرات شديدة؛ فخلال أزمة حرب الخليج 1990 مثلاً، كان مجرد احتمال سماح عمان بانتشار قوات عراقية على أراضيها – كما حدث إبان حرب 1967 – كفيلًا بأن يعتبره الاحتلال خطًا أحمر قد يستدعي ردًا صارمًا. وقد أكد مسؤولون أردنيون حديثًا التزامهم بعدم تحويل الأردن إلى ساحة حرب لأي طرف، حيث شدد وزير الخارجية أيمن الصفدي أن المملكة “لن تسمح لأحد بانتهاك أجوائها أو تعريض أمن مواطنيها للخطر” في إشارة إلى كل من إيران وإسرائيل. هكذا نجح الكيان الصهيوني عبر علاقات السلام والتنسيق الأمني في ضمان خلو الأردن من أي تهديد عسكري عربي، ما عزز دوره كعمق استراتيجي آمن لجبهة الاحتلال الشرقية.
شمال السعودية (منطقة تبوك): على الرغم من غياب علاقات تطبيع رسمية بين الرياض وتل أبيب، فرض كيان الاحتلال أمرًا واقعًا يحدّ من حرية التحرك العسكري السعودي في أقصى شمال المملكة بمحاذاة فلسطين المحتلة. فخلال حرب العراق 2003، قامت السعودية بنقل عشرات المقاتلات من طراز F-15 إلى قاعدة تبوك الجوية قرب خليج العقبة لحماية أجوائها، الأمر الذي أثار قلق الاحتلال ودفعه لمطالبة واشنطن بالضغط على الرياض لسحب تلك المقاتلات بموجب تعهد سعودي سابق بعدم نشر طائرات قرب حدود فلسطين المحتلة. منذ ذلك الحين امتنعت المقاتلات السعودية عن التحليق في أجواء تبوك المحاذية لإيلات دون تنسيق، بينما يُلاحظ أن سلاح الجو الإسرائيلي نفسه تمادى باختراق هذه الأجواء عند اللزوم. وقد سجلت حادثة شهيرة عام 1981 حين انتهكت طائرات حربية إسرائيلية المجال الجوي السعودي في المنطقة الشمالية الغربية، فقامت المقاتلات السعودية باعتراضها وإجبارها على العودة أدراجها إلى الأراضي المحتلة. وفي السنوات الأخيرة، كشفت تقارير غربية عن تعاون خفي يتمثل في سماح الرياض لطائرات الاحتلال بالمرور عبر شمال المملكة؛ إذ يتغاضى السعوديون عن استخدام المجال الجوي في منطقة تبوك لأغراض الرقابة واعتراض التهديدات الإيرانية المحتملة، حتى أن محللين وصفوا السعودية بأنها “متعاونة جدًا” في إتاحة الوصول الجوي الإسرائيلي خاصة في الجزء الشمالي من البلاد. وهكذا أوجد الاحتلال منطقة نفوذ جوية له فوق تبوك، محرّمًا فعليًا أي نشاط جوي عسكري سعودي معادٍ بالقرب من حدوده الشمالية.
غرب العراق
منذ عهد صدام حسين، عمل كيان الاحتلال على منع تحويل غرب العراق إلى منصة لتهديد أمنه، ما جعله بمثابة منطقة عازلة غير معلنة. خلال حرب الخليج عام 1991 قام الجيش العراقي بقيادة صدام غرب العراق باطلاق وابل من صواريخ سكود الباليستية على مدن الاحتلال.
وبعد تلك العملية، أصرّت الولايات المتحدة والأمم المتحدة على تجريد العراق من الصواريخ بعيدة المدى ومنعه من إعادة نشر منصات إطلاق في الأنبار الغربية. وبالفعل أخضعت قرارات الأمم المتحدة العراق لقيود تسليحية صارمة بعد 1991 حرمت بغداد من إعادة بناء قدرة صاروخية تهدد العمق الإسرائيلي. وإبان الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وما بعده، شكل الوجود العسكري الغربي في الأنبار حاجزًا ضمنيًا حمى حدود فلسطين المحتلة الشرقية من أي تحركات معادية.
حتى بعد سقوط نظام صدام حسين العراق وحتى اليوم بقي الخط الأحمر الإسرائيلي حاضرًا بقوة في غرب العراق. شهدنا ذلك بوضوح خلال العدوان الاسرائيلي على غزة 2023 وما تلاها، عندما قامت فصائل “المقاومة الإسلامية في العراق” بالمشاركة ضمن وحدة الساحات بعمليات عسكرية استهدفت عمق الكيان
غير ان الضغوط الغربية على العراق والتهديدات الاسرائيلية دفعت برئيس الوزراء العراقي آنذاك محمد شياع السوداني من أن رسالة كهذه ليست سوى ذريعة لعدوان إسرائيلي مباشر على الأراضي العراقية. هذا التهديد العلني يدل على أن الكيان الصهيوني نجح في ترسيخ غرب العراق كفضاء محرم على المناورات العسكرية المعادية أو نشر الصواريخ بعيدة المدى، تحت طائلة الضربات الوقائية، ليضمن بذلك عدم تكرار سيناريو سكود 1991 ومنع قيام أي جبهة شرقية تهدد أمنه.
الإحتلال يحاول فرض جنوب لبنان كمنطقة عازلة
منذ توقف المعركة بين المقاومة الاسلامية في لبنان والكيان الصهيوني والذي دخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 سعى كيان الاحتلال إلى إعادة تطبيق سياسة المناطق العازلة على الجبهة اللبنانية ورغم توقيع اتفاق وقف إطلاق نار برعاية أمريكية–فرنسية أواخر نوفمبر 2024، فإن الاحتلال لم يلتزم كاملًا ببنود الاتفاق الذي نصّ على انسحابه إلى ما وراء الخط الأزرق خلال 60 يومًا
بل استمر جيش الاحتلال في خرق السيادة اللبنانية بذرائع أمنية حيث قام باطلاق نيران مدفعيته داخل العمق اللبناني أكثر من مرة رغم تعهده بوقف العمليات، وأصدر أوامر أحادية بمنع أهالي بعض القرى الحدودية اللبنانية من العودة إلى منازلهم معلنًا منطقة حمراء يمتد فيها حظر تجول إسرائيلي غير منصوص عليه في الاتفاق.
وذكرت تقارير ميدانية أن قوات الاحتلال استخدمت ذخائر الفوسفور الأبيض المحرّمة دوليًا لإحراق الأحراش وإجبار السكان على إخلاء الشريط الحدودي عمقًا داخل لبنان، في تكتيك وُصف بأنه محاولة لخلق منطقة عازلة خالية من المدنيين والمقاومة.
وبعد انقضاء مهلة الانسحاب، أبقى جيش الاحتلال على نقاط تمركز في خمسة مواقع استراتيجية داخل جنوب لبنان متذرعًا بعدم جاهزية الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة لتسلّم زمام الأمن.
وقد أعلن متحدّث عسكري صهيوني أن هذه “المنطقة الأمنية” المؤقتة هدفها حماية مستوطنات الجليل ريثما يتم ضمان إبعاد مقاتلي حزب الله بالكامل، مشددًا بقوله: “نحن بحاجة للبقاء في تلك النقاط حاليًا للدفاع عن مواطنينا إلى أن يتمكن الجيش اللبناني من فرض الترتيبات المتفق عليها”. لكن الجانب اللبناني رأى في ذلك مناورة لشرعنة احتلال جديد؛ حيث اعتبرت الحكومة اللبنانية بقاء أي جندي إسرائيلي على أراضيها انتهاكًا صارخًا للسيادة ولموجب قرار مجلس الأمن 1701 (الصادر عام 2006). وقد سارعت الرئاسات اللبنانية الثلاث إلى الاستنجاد بالأمم المتحدة لمطالبة إسرائيل بالانسحاب الفوري، محذرة من أن استمرار الوضع ينذر بعودة دوامة المقاومة والاحتلال التي عانى منها لبنان طيلة عقدين حتى تحرير الجنوب عام 2000. ورغم هشاشة الهدوء الحالي، يواصل الاحتلال الإسرائيلي سياسة الاستفزاز جنوبًا: فرض حظر على الحركة ليلاً، وإطلاق النار على مدنيين عادوا لمنازلهم بذريعة الاشتباه، بل وتوسيع نطاق ضرباته الجوية شمال الليطاني (منطقة صيدا) بدعوى استهداف مخازن صواريخ للمقاومة. كل ذلك يؤشر إلى أن كيان الاحتلال عازم على فرض أمر واقع حدودي جديد في جنوب لبنان أشبه بمنطقة عازلة بحكم الأمر الواقع، متجاهلًا الاتفاقات مع الأمم المتحدة ومعتمدًا على قوة الردع لفرض رؤيته الأمنية.
جنوب سوريا منطقة عازلة
شهدت الساحة السورية فصلًا جديدًا من استراتيجية المناطق العازلة الإسرائيلية إثر الانهيار المفاجئ لنظام بشار الأسد أواخر عام 2024 وصعود جماعات مسلحة إلى سدة الحكم في دمشق بقيادة أحمد الشرع (المعروف بخلفيته الجهادية). فمنذ الساعات الأولى لـسقوط النظام في ديسمبر، لم تهدأ الماكينة العسكرية الإسرائيلية؛ إذ شنّت مقاتلات الاحتلال عشرات الغارات في عمق الأراضي السورية خاصة في الجنوب ومحيط دمشق، مستهدفة مواقع عسكرية حساسة بدعوى الخشية من وقوعها في أيدي “جهات معادية”. وبالتوازي، نفذت قوات الاحتلال عمليات توغل بري عديدة عبر خط وقف إطلاق النار في الجولان. تجاوزت دبابات وجرافات العدو السياج الشائك لتتوغل في الشريط المحرّم (المنطقة العازلة المنصوص عليها باتفاق فض الاشتباك لعام 1974) وصولًا إلى تخوم القنيطرة وجبل الشيخ، حيث باشرت إنشاء تحصينات وسواتر جديدة بذريعة إقامة منطقة عازلة تفصل بين الأراضي السورية وهضبة الجولان المحتلة.
بهذه التحركات أحادية الجانب، ألغى الاحتلال فعليًا اتفاق فصل القوات لعام 1974 الذي كرّس تلك المنطقة منزوعة السلاح تحت رقابة قوات الأمم المتحدة لمدة نصف قرن تقريبًا.
وبرّر قادة الاحتلال خطواتهم التصعيدية بأن النظام السوري الجديد غير موثوق كونه مكوّن من جماعات “إرهابية”. فقد وصف وزير الدفاع الإسرائيلي (يوآف غالانت في حكومة نتنياهو حينها) الرئيسَ السوري المؤقت أحمد الشرع بأنه “إرهابي جهادي من مدرسة القاعدة” متهمًا إياه بارتكاب فظائع ضد المدنيين، في إشارة واضحة إلى نوايا تل أبيب التعامل مع السلطة الناشئة في دمشق بمنطق أمني بحت لا مكان فيه للتواصل الدبلوماسي.
ومضى مسؤولون إسرائيليون إلى التحريض دوليًا على الحكومة السورية الجديدة، مدعين أنها تفتح أراضيها لإيران ووكلائها، ومطالبين بضمانات صارمة قبل أي حديث عن تطبيع أو تهدئة على الجبهة السورية.
في غضون ذلك، استغل الكيان الصهيوني حالة الفراغ والارتباك في سوريا ليوسّع ضرباته النوعية. فخلال ربيع 2025 وحده، دمرت غارات جوية إسرائيلية بطاريات دفاع جوي ومستودعات صواريخ أرض-جو في ريف دمشق ودرعا وحماة، ضمن استراتيجية أوسع – وصفها مراقبون بأنها “سلام بالقوة” – هدفها إخضاع القيادة الجديدة في دمشق وفرض واقع أمني سياسي يتناسب مع مصالح الاحتلال.
وتبدو النتيجة اليوم أن الاحتلال نجح في اقتطاع منطقة نفوذ عازلة في جنوب سوريا أيضًا، مستفيدًا من هشاشة الوضع الداخلي هناك.
فبينما تنشغل الإدارة السورية الانتقالية بتثبيت حكمها ومواجهة الفصائل المناوئة، يكرس جيش الاحتلال قواعد اشتباك جديدة على حدود الجولان وغيرها :
لا تواجد لقوات معادية قرب الحدود، سماح ضمني لفصائل محلية غير معادية لإسرائيل بالسيطرة، واستباحة مطلقة للأجواء السورية لضرب أي هدف مشبوه من دمشق حتى الحدود الأردنية. هذا الواقع يضع سوريا أمام معضلة أمنية وسيادية خطيرة؛ فإما الرضوخ للإملاءات الإسرائيلية وتجرّع التطبيع القسري، أو المخاطرة بمواجهة عسكرية غير متكافئة في ظرف بالغ الصعوبة.
الأهداف والدوافع وراء استراتيجية العزل
تستند الإستراتيجية الإسرائيلية لإقامة مناطق عازلة إلى جملة أهداف أمنية وسياسية يسعى كيان الاحتلال لتحقيقها على المدى القريب والبعيد. فعسكريًا، الهدف الأول هو حماية الحدود وضمان التفوق
توفر الأحزمة العازلة عمقًا أمنيًا يبعد خطوط التماس عن المستوطنات والمراكز الحيوية الإسرائيلية، مما يمنح جيش الاحتلال إنذارًا مبكرًا وقدرة أفضل على امتصاص أي هجوم قبل وصوله إلى قلب الأراضي المحتلة. لذلك ترى تل أبيب في إقامة مناطق منزوعة السلاح على جوانب حدودها
وقد عبّر مسؤولون إسرائيليون عن ذلك صراحةً، مثلما قال وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر مؤخرًا: “لن نسمح لحزب الله أن يعيد التسلح ويهدد مدنيينا مرة أخرى”، في إشارة إلى إبقاء الجنوب اللبناني تحت الرقابة بالنار لمنع عودة المقاومة.
كما لوّح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه حتى في حالة اتفاقيات هدنة “ستحافظ إسرائيل على حرية عمل عسكرية كاملة” تحسّبًا لأي إخلال من الطرف الآخر. هذا النهج يعكس عقيدة أمنية إسرائيلية قديمة تعتبر عمق الجوار الجغرافي امتدادًا لأمنها القومي، سواء عبر سلام واتفاقيات تفرض شروطًا أمنية (كما في مصر والأردن) أو عبر أمر واقع بالقوة (كما يحدث في لبنان وسوريا وغزة).
سياسيًا واستراتيجيًا، يرى محللون أن وراء الخطاب الأمني الإسرائيلي أجندة توسعية مبطنة تهدف إلى فرض أمر واقع جيوسياسي جديد في المنطقة. فالمناطق العازلة بالنسبة للاحتلال ليست مجرد ترتيبات دفاعية مؤقتة، بل هي أداة لتوسيع النفوذ الإقليمي دون إعلان رسمي. عبر خلق واقع حدودي جديد – كاقتطاع أجزاء من حدود غزة الشمالية والشرقية أو التمركز داخل أراضي لبنان وسوريا – يسعى كيان الاحتلال لترسيم خارطة أمنية تخدم مصالحه على المدى الطويل.
ويساعده في ذلك عدم اعتراض القوى الدولية الفاعلة، ما يشجعه على المضي بخطوات أحادية الجانب لترسيخ سيطرته وتهميش دور الدولة المعنية
على سبيل المثال، استغل الاحتلال ذريعة منع تهريب السلاح في ممر صلاح الدين (فيلادلفيا) على حدود غزة–مصر للمطالبة بمنطقة عازلة تفصل غزة عن سيناء، بل ولوّح بفكرة توسيعها داخل القطاع نفسه لقضم أراضٍ بدعوى الأمن.
هذا ينسجم مع رؤية إسرائيلية أوسع تتطلع إلى ترتيبات إقليمية جديدة تُبعد الأخطار الحدودية نهائيًا، سواء عبر تطبيع بالترغيب أو بالترهيب. ففي الحالة السورية مثلاً، كشفت تصريحات مسؤولين إسرائيليين عن نية لفتح باب التطبيع مع “سوريا الجديدة” لكن بشروط أهمها ابتعادها عن إيران وقبولها بترتيبات أمنية مجحفة مثل التخلي عن الجولان المحتل. أي أن المناطق العازلة تصبح ورقة ضغط على الأنظمة العربية لدفعها إلى اتفاقات سلام وتطبيع بشروط الاحتلال وتحت وطأة التفوق العسكري الإسرائيلي. هكذا يستخدم كيان الاحتلال إستراتيجية العزل لتحقيق تفوق إستراتيجي شامل: أمنيًا بمنع التهديدات، وسياسيًا بفرض إرادته على جواره الإقليمي.
إنها باختصار سياسة “الأمن أولاً” من المنظور الصهيوني والتي غالبًا ما تأتي على حساب سيادة الآخرين وحقوقهم، وتمنح الاحتلال اولوية في التحكم في مجريات الصراع تمهيدا للاحتلال
التداعيات الإقليمية
لا شك أن سياسة المناطق العازلة الإسرائيلية تترك آثارًا عميقة على سيادة الدول العربية المعنية وأمنها القومي، كما تُحدث اختلالات في ميزان القوى الإقليمي وعلاقات الدول ببعضها. فعلى صعيد السيادة الوطنية، تنتقص هذه الترتيبات الأحادية من قدرة الدول على بسط سيطرتها الكاملة على أراضيها الحدودية.
ففي مصر، ورغم مكانتها كأكبر دولة عربية، وجدت نفسها ملتزمة بقيود انتشار عسكري في سيناء تفرض فعليًا درجة ما من السيادة المنقوصة شرق قناة السويس.
صحيح أن القاهرة قبلت ذلك طوعًا ضمن معاهدة السلام، لكنه بقي مثار جدل داخلي خصوصًا عندما عرقل قدرتها على مواجهة تمرد جماعات إرهابية في شمال سيناء بسبب حدود تسليح قواتها هناك.
أما لبنان، فالتعدي الإسرائيلي المباشر على أراضيه جنوبًا حوّله إلى ساحة مستباحة في نظر الكثيرين، حيث يقوم كيان الاحتلال بدور الشرطي في منطقة يفترض أنها تحت سيادة الدولة اللبنانية وقوات الأمم المتحدة. وقد دفع هذا الانتهاك العلني بيروت إلى تقديم شكوى رسمية في مجلس الأمن ضد خروق الاحتلال، في موقف يذكّر بالعجز عن منع اجتياحات سابقة إلا عبر الضغط الدولي.
كما أن استمرار تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق الأراضي اللبنانية والسورية دون رادع بات أعرافًا مفروضة بالقوة، مما يهز صورة تلك الدول كدول مستقلة قادرة على حماية أجوائها.
من الناحية الأمنية، أمن الدول العربية الحدودية يتأثر بهذه الترتيبات. فمثلاً، إفراغ جنوب سوريا من أي تواجد عسكري سوري أو حليف – تحت تهديد الضربات الإسرائيلية – يخلق فراغًا تستغله جماعات متطرفة أو يؤدي إلى اضطراب أمني على حدود الأردن والعراق. وكذلك الحال في سيناء خلال سنوات ما بعد الثورة المصرية 2011، إذ أدى ضعف الانتشار العسكري المصري في المنطقة “ج” إلى استشراء نشاط الجماعات الإرهابية هناك قبل أن تعدل مصر الاتفاق أمنيًا مع إسرائيل لمحاربتها.
هذا يعني أن المناطق العازلة توفر ذريعة للكيان لاحتلالها في اي وقت
على مستوى موازين القوى الإقليمية، من الواضح أن كيان الاحتلال استفاد من هذه الإستراتيجية لتعزيز تفوقه النوعي على مجموع الدول العربية المحيطة. فإسرائيل التي كانت تفتقر إلى العمق الجغرافي، أصبحت تتمتع بعمق استراتيجي افتراضي عبر تلك المناطق العازلة التي تمنع اقتراب أي قوة من حدود الارضي المحتلث
هذا التفوق الدفاعي مكّنها من التصرف بحرية أكبر عسكريًا، فنراها تشن ضربات جوية على دول بعيدة (مثل ضرب المفاعل العراقي 1981 عبر اختراق الأجواء السعودية، وضرب قافلات في السودان وسوريا وغيرها) مطمئنة إلى غياب أي رد مماثل على جبهاتها الحدودية المؤمّنة.
كما أدى ذلك إلى إضعاف أوراق الضغط العربية في أي مواجهة شاملة مستقبلية، إذ جُرّدت مصر من سيناء عسكريًا والأردن من إمكانية استقبال قوات داعمة، وحُيّد العراق وسوريا بدرجات كبيرة.
في المحصلة، اختل الميزان التقليدي للصراع العربي-الإسرائيلي لصالح الاحتلال الذي بات في موقع الهجوم الدائم والدفاع المحمي، فيما وجدت الدول العربية نفسها محاصرة سياسيًا وأمنيًا في خيارات محدودة.
من ناحية علاقات الدول, أفرزت إستراتيجية العزل واقعًا جديدًا في التعاطي الإقليمي. الدول التي أبرمت اتفاقات سلام مع إسرائيل (كمصر والأردن) واجهت ضغوطًا للتكيف مع متطلبات الأمن الإسرائيلي ولو تعارضت أحيانًا مع مصالحها السيادية.
ورغم التعاون الهادئ تحت الطاولة، يظل الرأي العام في تلك الدول رافضًا لأي دور يعتبرونه حماية للاحتلال.
ففي الأردن مثلًا، ورغم إسقاط صواريخ إيرانية متجهة لإسرائيل مؤخرًا حمايةً للأراضي الأردنية، حرصت عمّان على تأكيد أنها فعلت ذلك لدواعٍ سيادية أردنية، لا دفاعًا عن إسرائيل، إدراكًا لحساسية الشارع الذي ما زال ينظر لإسرائيل كعدو محتل.
مثل هذه المواقف تعكس تأثير إستراتيجية العزل على النسيج الداخلي العربي: فهي تضع الحكومات أحيانًا في مواجهة انتقادات شعبية تتهمها بخدمة أمن الاحتلال على حساب القضايا القومية.
وعلى الجانب الآخر، ولّدت هذه السياسة اصطفافات جديدة؛ فإسرائيل وجدت ضالتها في تعاون ضمني من دول خليجية مقلقة من إيران، فشهدنا مثلاً كيف سمحت السعودية – غير المطبّعة رسميًا – لطائرات إسرائيلية بالاستفادة من مجالها الجوي الشمالي ضد تهديدات إيرانية، وذلك في إطار تنسيق أمني أوسع ترعاه واشنطن بين حلفائها الإقليميين.
هذا الواقع زاد من استقطاب المنطقة بين محور يعتبر إيران الخطر الأكبر ويتقاطع مع الكيان أمنيًا، ومحور آخر يرى في الاحتلال التهديد الأساسي.
وبالتالي قد تسهم المناطق العازلة التي يفرضها الكيان الإسرائيلي توسعه في تعميق الهوة بين الدول العربية نفسها وفقًا لمواقفها من التنسيق مع الاحتلال أو معارضته.
في المحصلة، تمثل استراتيجية المناطق العازلة الإسرائيلية معادلة معقدة توازن بين هواجس الاحتلال الأمنية المشروعة من منظوره، وبين حقوق الدول العربية في السيادة والأمن.
وبينما نجح كيان الاحتلال في توسيع نطاق هذه الإستراتيجية جغرافيًا منذ اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وصولًا إلى ما بعد “طوفان الأقصى”, فإن الثمن كان باهظًا يتمثل في انتقاص سيادة الجوار وإبقاء حالة التوتر وعدم الاستقرار الإقليمي.
إنها لعبة فرض الأمر الواقع بالقوة والتفاهمات التي يقبل بها الطرف الآخر مكرهًا أو مختارًا. ومع استمرار تل أبيب في نهجها الحالي – مدعومة بتفوقها العسكري وصمت دولي – قد نشهد مزيدًا من التوسع الزاحف للمناطق العازلة، سواء في جنوب لبنان أو عمق سوريا وما لم يُقابل ذلك بموقف عربي ودولي حازم يعيد التأكيد على حرمة سيادات الدول، فإن استراتيجية “الأمن أولاً” الإسرائيلية ستظل تتغوّل، مُعيدِة رسم الخرائط والوقائع على حساب الآخرين، ومعيدة إنتاج صراعات جديدة تحت قناع التهدئة والحماية الأمنية.
المناطق العازلة… حدود إسرائيل الكبرى تتشكّل
ليست المناطق العازلة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي مجرد إجراءات أمنية احترازية أو خطوط فصل مؤقتة كما يدّعي قادته، بل هي تجسيد ميداني تدريجي لفكرة أيديولوجية خطيرة لطالما حَملت في جوفها مشروعًا توسعيًا عابراً للحدود… مشروع “إسرائيل الكبرى”. حين ننظر إلى خارطة انتشار هذه المناطق – من سيناء إلى الأنبار، ومن الجولان إلى جنوب لبنان – ندرك أنها ليست وليدة الضرورات العسكرية كما يروج الاحتلال، وانما انعكاس حرفي لخطوط جغرافية رسمها العقل الصهيوني منذ نشأة الفكرة، وتداولتها الأيدي الصهيونية في كتب الحاخامات، ومؤتمرات الإستراتيجيا، وغرف الاستخبارات. هذه المناطق، على تنوعها الجغرافي، تشكل معًا حزامًا جيوسياسيًا يحيط بفلسطين التاريخية من الجهات الأربع، ويحاكي تمامًا الحدود التوراتية المتخيلة للدولة الصهيونية، تلك التي تمتد “من النيل إلى الفرات” بحسب نصوص أيديولوجية باتت تتحول شيئًا فشيئًا إلى أمر واقع.
شبه جزيرة سيناء، التي جرّدت من الجيش المصري باتفاقية كامب ديفيد، منطقة نزعت منها السيادة المصرية الفعلية لصالح الاحتلال، وأُخضعت لتوازن هش من القوات الأجنبية والمراقبة الإسرائيلية غير المباشرة. أما الأردن، فقد حوّله الاحتلال إلى منطقة عازلة ضخمة، تمنع وصول أي جيش أو فصيل مقاوم إلى حدود الضفة الغربية، ليصبح حاجزًا طبيعياً يفصل بين اسرائيل وامتدادها المفترض شرق النهر.
و ليس عبثاً أن يُطرح الأردن في الأدبيات الصهيونية كـ”الوطن البديل”، فوظيفته الحالية كمنطقة عازلة ليست سوى خطوة في مسار الطموح القديم.
في الشمال، يشكل جنوب لبنان مشهداً صارخاً لاستراتيجية تشبه بوضوح مشروع الهيمنة الصهيونية. بعد كل عدوان، يسعى الاحتلال إلى إفراغ هذا الشريط من المقاومة وسكانه الأصليين، ليكون فراغًا أمنيًا يخدم عمق كيانه، حتى ولو تطلّب الأمر القصف بالفوسفور أو خرق القرار 1701 علنًا. لا فرق بين التهجير الميداني بالقذائف وبين شطب القرى من خرائط الاحتلال.
أما في الجولان، فحكاية التوسع تُروى على لسان الجرافات والدبابات، التي تخرق اتفاق فصل القوات لعام 1974 لتوسّع من وجودها في الشريط الحدودي وتفرض أمراً واقعاً في الجنوب السوري بعد انهيار السلطة هناك. القنيطرة، تل شهاب، جبل الشيخ… أسماء لم تعد بعيدة عن عين الاحتلال، لا عسكرياً ولا في أحلام الصهاينة الذين يرون في الجنوب السوري امتدادًا آمنًا للجولان المحتل.
في الغرب العراقي، لا يملك الاحتلال جنودًا على الأرض، لكنه يفرض حدودًا سياسية بالنار والدبلوماسية. فكل محاولة لنشر صواريخ أو فصائل مقاومة في الأنبار أو الرطبة تُقابل بضربات أو تهديدات فورية.
الغرب العراقي بات منطقة عازلة بغير إعلان، ضمن توافق أمريكي-إسرائيلي غير مكتوب، يضمن أمن “إسرائيل” من خاصرتها الشرقية، تمامًا كما حلم به بن غوريون وبيغن من قبل.
بهذه الطريقة، تتراكم الجغرافيا في خدمة المشروع، ويُعاد تشكيل الخارطة بهدوء، تحت غطاء “التهدئة” حينًا و”السلام” حينًا آخر.
الاحتلال اليوم يرسم حدودًا جديدة لواقع سياسي زاحف، يُقصي الجيوش العربية، ويُخلي أطراف الدول المجاورة من سكانها، ويمهد للعودة إلى حدود توراتية وُلدت على الورق وتحاول أن تتحقق بالسلاح، والحصار، والمناطق العازلة. هكذا تُخاض معركة صامتة، لا تُعلن كحرب، لكنها تُدار كغزو بطيء، يُعيد رسم الخريطة لصالح مشروع لم يمت
إرادة عربية أو مشروع إسرائيل الكبرى
المنطقة العربية تقف اليوم أمام مفترق حاد وخطر لا يمكن التقليل من شأنه، فالمناطق العازلة التي يفرضها تحولت إلى مساحات جغرافية معطوبة السيادة تُهيّأ لتكون أجزاءً مستقبلية من خرائط التوسع الصهيوني.
وما يجري في جنوب لبنان، وفي السويداء والقنيطرة، وفي صحراء سيناء، وفي تخوم الأنبار، ليس سوى المراحل الأخيرة من مشروع بدأ منذ أكثر من قرن، ويُستكمل الآن عبر أدوات ناعمة حينًا ودموية حينًا آخر. الاحتلال لا يتراجع، وانما يعيد التموقع، وكل منطقة يُفرغها من سكانها، أو يُجرّدها من جيشها، أو يُخضع أجواءها لرقابته، إنما يضمّها ضمنيًا إلى منطقته الأمنية التي لا يعترف لها بحدّ. وإذا لم تُواجه هذه السياسة بقرار عربي حاسم، فإننا على أعتاب مرحلة تصبح فيها “إسرائيل الكبرى” واقعًا قائمًا بحكم الأمر الواقع، لا بخطاب الأساطير.
إن وقف هذا الانحدار العربي، وهذا التغوّل الإسرائيلي الصامت، لا يمكن أن يتحقق بالتمنيات ولا ببيانات الشجب.
إنه يستلزم أولًا إرادة عربية تستشعر أن خطر الكيان لم يعد مقتصرًا على حدود فلسطين، بل ينهش سيادة كل قطر عربي واحدًا تلو الآخر، بدءًا من مصر والأردن، مرورًا بلبنان وسوريا، وصولًا إلى العراق. دون هذا الإدراك الجماعي، ستبقى إسرائيل تفوز على طاولة الأمن قبل أن تطلق رصاصة.
ثانيًا، لا مستقبل لأي مواجهة استراتيجية مع الكيان دون تسليح المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية. المقاومة اليوم لا تحتاج بيانات دعم، وانما حاجتها ماسة إلى شبكات إمداد ثابتة، وبُنى عسكرية تُبقيها في موقع التهديد الدائم للمستوطنات. لقد أثبتت غزة، رغم حصارها ودمارها، أن الرعب الذي تزرعه صواريخها في عمق الكيان أقوى من كل مؤتمرات التسوية. وإذا كانت الأنظمة العربية تخشى تبعات التورط المباشر، فإن بإمكانها أن تدعم تحت الطاولة، أو تغض الطرف عن قنوات الإمداد، أو تقيم قواعد خلفية تُوفر الدعم الفني واللوجستي. المطلوب ليس إعلان حرب، بل إنهاء حالة العزل العسكري التي تعاني منها المقاومة.
ثالثًا، على سوريا الجديدة – بعد انهيار النظام السابق وصعود إدارة انتقالية – أن تعيد رسم أولوياتها القومية. لا يجوز لسوريا ما بعد الحرب أن تكون محايدة في الصراع مع الاحتلال، ولا أن تكرر حياد ما قبل 2011. بل يجب أن تتحول أراضيها إلى رئة استراتيجية مفتوحة أمام المقاومة اللبنانية، وأن تعود الحدود السورية اللبنانية ساحةً لتدفق الدعم النوعي.
والجنوب السوري لا يجب أن يتحول إلى منطقة منزوعة الإرادة، بل إلى حزام ردع رديف لحزب الله.
رابعًا، لا يمكن لهذا المحور أن ينجح ما لم تُدعم الدولة السورية الجديدة عسكريًا، ويُعاد بناأ جيشها ، ودعمها بسلاح متطور وتدريب ميداني، لردع أي اختراق إسرائيلي جديد في الجولان أو الجنوب.
وإذا تُركت سوريا في فراغها الأمني الحالي، فإن الاحتلال سيملأه كما يشاء، وسيرسم حدوده حيث يشاء، ولن يكون هناك من يوقفه عند حده. دعم سوريا الجديدة واجب استراتيجي لا بديل عنه، ويجب أن يتم بعيدًا عن حسابات النفوذ الإقليمي، فالمعركة اليوم مع الاحتلال تتجاوز المحاور، وتمس جوهر الأرض والعقيدة والسيادة.
ما لم تتحقق هذه النقاط الأربع، فإن المنطقة ستستيقظ قريبًا على واقع جديد لا يمكن التراجع عنه إسرائيل تتحكم بجغرافيا الجوار، والحدود العربية تصبح خاضعة لتقديرات جيش الاحتلال الإسرائيلي، والمقاومة محاصرة بلا ظهير. لن ينفع حينها العويل، ولا التفاوض، ولا المؤتمرات. ما يُمنع اليوم بالدم والسلاح والإرادة، لا يمكن استعادته غدًا بالسياسة. والاحتلال، كما أثبت تاريخه، لا يعرف إلا من يقف في وجهه، لا من يدور حوله.
المصادر:
1- معاهدة كامب ديفيد 1978 وتوابعها؛
2- معاهدة وادي عربة 1994؛
3- قرارات مجلس الأمن 425 (1978) و-1701 (2006)؛ تقارير الأمم المتحدة؛
4- تصريحات رسمية وتقارير صحفية من وكالات غربية وعربية؛ شبكة الجزيرة الإخبارية وغيرها.